بناها السلطان الظافر عامر بن عبد الوهاب بن داود بن طاهر في شهر ربيع الأول من شهور سنة عشر وتسع مئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام . وقد قام بالإشراف على بنائها وزيره الأمير علي بن محمد البعداني، وهي ما تزال عامرة حتى اليوم، ولكنها وشيكة الخراب؛ لإهمال نظار الأوقاف لها، لاسيما بعد أن استبيحت أوقافها واستولى عليها الولاة والحكام لأنفسهم.
وكان أول من سعى في خرابها الإمام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب) المتوفى سنة 1130هـ . فقد أراد هدمها لأنها في زعمه واعتقاده من آثار كفار التأويل، وهم لا قربة لهم، فتصدى له القاضي علي بن أحمد السماوي المتوفى برداع سنة 1117 هـ، وحذره من عاقبة عمله إن هو أصر على خرابها، وتلا عليه قول الله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). فتوقف المهدي عن خرابها مكتفياً بهدم معظم شرفاتها تحلة ليمينه: فقد كان أقسم- كما يقال - بأنه سيهدمها وإن كان المطهر ابن الإمام شرف الدين قد سلبها محاسنها من قبل، بعد أن قضى على دولة بني طاهر.
وهي مكونة من دورين: الدور الأرضي كان يستعمل- فيما أظن- لسكنى طلبه العلم؛ إذ أن فيه عشرين غرفة: عشر في الجهة الشرقية، وأربع في الجهة الشمالية، وست في الجهة الغربية. وهناك قاعتان بينهما ممر طويل له بابان أحدهما إلى الشرق والآخر إلى الغرب واعتقد أن تلك القاعتين كانتا تستعملان لحلقات الدرس، وسقفه جملول، وفيه أيضاً مصلى، ومقصورات للوضوء، والاغتسال، في الإيوان الجنوبي، والدور الثاني مسجد تعلوه قبة كبيرة، وحولها ست قباب صغيرة متناسقة، وأمامه من جهة القبلة فسقية وكانت المياه تندفع إليها من غيل المحجري. وجنوب قاعة الصلاة صحن المسجد، وحوله أربعة أواوين وفي الركن الجنوبي الغربي تقع غرفتان إحداهما فوق الأخرى، وربما كانتا مسكناً لشيوخ العلم.
ومكتوب في جدار مسجد القبة من الداخل ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة، وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين). أمر بعمارة هذه المدرسة المباركة السعيدة مولانا ومالكنا ومالك أمرنا مولانا الإمام الأعظم والملك المعظم مصباح الآفاق، ومالك سرير الخلافة باستحقاق، ظل الله على الأنام، ملك الشام واليمن، وارث ملك تبع وابن سيف بن ذي يزن، ذو المفاخر والمناقب سلطان المشارق والمغارب مالك رقاب الأمم، وحاوي فضيلتي السيف والقلم، مولى الحلم والرأفة، مالك دستور الخلافة، طيب العناصر، فخر الأوائل والأواخر، بهاء الملة والدين، سيد الملوك والسلاطين، حجة الله على الإسلام ومحي شريعة محمد عليه-الصلاة والسلام أمير المؤمنين خليفة رسول رب العالمين، صلاح الدنيا والدين السلطان ابن السلطان، الملك الظافر، مولانا عامر بن مولانا السلطان الملك المنصور عبد الوهاب بن داود بن طاهر" .
وقد اختفى معظم هذه الكتابة تحت ركام من طبقات الجص بما في ذلك التاريخ، ولم يبق من الكتابة التي تقرأ إلا القليل.
وكان السلطان عامر بن عبد الوهاب من الملوك البارزين، تولى الملك سنة 894 هـ، على إثر وفاة والده المنصور، فبسط نفوذه على اليمن الأسفل والأعلى وتهامة وتغلب على الإمام محمد بن علي الوشلي، ثم قام الإمام شرف الدين فدعا إلى نفسه بالإمامة سنة 912 هـ، ولكن نفوذه كان محصوراً في بلاد حجة، حتى قدم الجراكسة إلى كمران سنة 913 هـ، لمطاردة البرتغاليين الذين كانوا يسعون للاستيلاء على ديار المسلمين والقضاء عليهم كما فعلوا هم والإسبان بالمسلمين في الأندلس.
وكان الجراكسة قد اتصلوا بالسلطان عامر، وطلبوا منه مساعدته لهم، وإمداده بالمعونة حتى يواصلوا الدفاع عن شواطئ الجزيرة العربية فاستشار السلطان رجال دولته، فأشار عليه وزيره علي بن محمد البعداني بأن يمنع عنهم كل معونة، فنزل الجراكسة إلى اللحية والحديدة وهم مسلحون بالبنادق النارية (المعروفة في اليمن بالبنادق العربي) ولم تكن معروفة عند أهل اليمن، فذعروا منها، وفرت قوات السلطان من أمام الجراكسة مهزومين، وقد استغل الإمام شرف الدين هذه الفرصة، فاتصل بالجراكسة، وأعانهم على السلطان عامر عبد الوهاب حتى انتهى أمر عامر عبد الوهاب بأن قتل خارج صنعاء يوم الجمعة 23 ربيع الآخر سنة 923 هـ. بعد الملك الباذخ والسلطان الكبير، فسبحان المتفرد بالبقاء ، وكان مولده بالمقرانة سنة 866 هـ.
وذكر المؤرخون أن من أسباب زوال ملكه تهاونه في حرمه أوقاف من قبله واستباحتها. فانتهت أوقافه إلى ذلك المصير.
وله مآثر خيرية أخرى، منها مدرسة في زبيد، ومدرسة في تعز، ووقف عليها أوقافاً واسعة، وعمر وأصلح ما تشعث من المدارس السابقة، وكذلك عمارة جامع زبيد الكبير، والجامع الكبير في المقرانة، ومسجد القبة بها، ومسجد بعدن، وآخر بالمباءة بظاهر باب البر منها وعمارة المسجد الجامع بتريم، وصهريج عظيم بها لم يسبق إلى مثله، وآخر بقرية عسيق وغير ذلك .وقد أشار إلى هذا محمد بن عمر بن المبارك الحضرمي، المعروف ببحرق فقال:
أبي الله إلا آن تحـوز المفاخـرا فسماك من بين البرية عامرا
عمرت رسوم الدرس بعد دروسها وأحييت آثار الإله الدواثـرا
ورثاه المؤرخ عبد الرحمن بن علي الديبع بقوله:
تحطمَ من ركن الصلاحِ مَشيدهْ وقُوضَ من بنيانه كـل عامـرِ
فما من صلاحٍ فيه بعد صلاحهِ ولا عامرٍ– واللهِ –من بعدِ عامرِ
المصدر: (المدارس الإسلامية في اليمن ،إسماعيل الأكوع ) .
|