بعد القضاء على الدولة الطاهرية تغيرت الأحلاف وموازين القوى وأخذ الإمام شرف الدين يقاتل حلفاء الأمس من المماليك الذين أسماهم قبلاً " غزاة كرماء ". ويتحالف مع والي الدولة الطاهرية في ثلا، في حين تحالف الأشراف الحمزات مع المماليك نكاية بالإمام شرف الدين، وقد ضعفت معنويات الجند المماليك كثيراً بسبب سقوط دولتهم في مصر على يد الأتراك العثمانيين بعد قليل من القضاء على الدولة الطاهرية في نفس العام 923 هـ/1517م ، مما اضطر المماليك في اليمن إلى الاعتراف بالسيادة العثمانية، وهكذا دخلت اليمن تحت السيادة العثمانية عبر تبعيتها السابقة للمماليك، لكن العثمانيين أنفسهم لم يصلوا اليمن إلا عام 945 هـ/ 1538 م وهي حملتهم الأولى إلى اليمن بعد أن وضحت لهم أهمية موقع اليمن الإستراتيجي المطل على البحر الأحمر وبحر العرب، في إطار صراعهم كقوة دولية مع القوة البرتغالية البحرية المتنامية في المحيط الهندي وبحر العرب ،والتي أخذت تحول الطريق التجاري من البحر الأحمر عبر رأس الرجاء الصالح مع ما يتبع ذلك من خسائر في عائدات الموانئ الخاضعة لسيطرة العثمانيين .
أما مصير المماليك في اليمن قبل قدوم العثمانيين فقد آل إلى قوة صغيرة منحصرة في زبيد بعد أن تمكن الإمام شرف الدين بمعارك طاحنة مع المماليك من مطاردتهم مهزومين حتى زبيد. وقد تولى قيادة الحملات الحربية المطهر ابن الإمام شرف الدين، أحد فرسان الحرب المرموقين في هذه الفترة ،والمتصف مع ذلك بالقسوة والجبروت إلى حد أن أباه الإمام شرف الدين برأ إلى الله أمام الملأ من بعض أفعاله. لقد حصر نفوذ المماليك في زبيد، لتقضي عليهم بعدئذ القوة التركية الغازية، وليجد الإمام شرف الدين، الذي كان قد ضم معظم اليمن من عدن إلى صعدة تحت حكمه- نفسه وجها لوجه مع العثمانيين .
وابتداء من هذه الفترة التي تولى قيادتها الإمام شرف الدين وحتى قيام الثورة في 26 سبتمبر 1962 م تنسحب الأحداث التاريخية الكبرى وزمام المبادرة من المناطق الجنوبية السهلية لليمن لتتركز في الجهات الجبلية الشمالية بزعامة الأئمة الزيديين وأتباعهم في اليمن الأعلى ، وإلى جانب عدد كبير من الأئمة الطامحين تمكنت فقط أسرتان من الأسر الهاشمية من تحقيق السيادة والنفوذ ، وإن كان ذلك بشكل متقطع ، وبين وهن وقوة ، هما: أسرة شرف الدين، وأسرة آل القاسم. وفي فترة الوجود العثماني الأول في اليمن كان الإمام شرف الدين وابنه المطهر رجلا المرحلة ، فخاضا حرباً ضروساً ضد العثمانيين ، كان يمكن أن تكلل بالنجاح سريعاً لولا التنافس على النفوذ داخل أسرة شرف الدين الذي أسهم في طول هذه الحرب وبقاء الأتراك في اليمن ، إذ قامت المنافسات بين الإمام شرف الدين وابنه المطهر وفيما بعد بين المطهر وإخوته لينقسم معسكرهم بين مؤيد لهذا ومؤيد لذاك . وأخذت القوى القبلية تحاول الحصول على مساحة نفوذ تتحكم فيها، إلى جانب منافسات أئمة آخرين لآل شرف الدين، وقد أدت هذه المنافسات والحروب إلى الاستعانة بالعثمانيين لترجيح الكفة ضد المنافسين، ومع ذلك فقد كان الأئمة الزيديون في هذه الفترة إجمالاً هم القوة المهيمنة والمتصدرة لعظائم الأمور ضد هيمنة الأتراك العثمانيين، وكان آل كثير في حضرموت قد استغلوا الفراغ السياسي في جهاتهم وكونوا الدولة الكثيرية بزعامة السلطان بوطويرق 844 – 915 هـ /1438- 1510 م ، وهكذا كانت اليمن في هذه الفترة موزعة بين ثلاث قوى:الأتراك في الجهات الغربية، والأئمة من بيت شرف الدين في الجهات الشمالية، وآل كثير في حضرموت .
وبوفاة المطهر بن شرف الدين زعيم الجبهة الزيدية وقائد المقاومة عام 980 هـ / 1572 م ينتهي دور آل شرف الدين لتعقبهم فترة تدهور للمقاومة ضد الأتراك تستمر ربع قرن ليظهر الإمام القاسم بن محمد ، قائداً لثورة عارمة ضد العثمانيين وليؤسس لجيل جديد آخر من الأئمة الزيديين سيستمر في الحكم بين مد وجزر حتى زمن الثورة الجمهورية عام 1962م، وقد تميز تاريخ الفترة اللاحقة بالنضال الدؤوب من قبل اليمنيين جميعاً بزعامة الأئمة من بيت الإمام القاسم بن محمد الذي تمكن من فرض صلح مع الوالي العثماني محمد باشا يحق للإمام بمقتضاه من حكم المناطق الشمالية لصنعاء على المذهب الزيدي المخالف لمذهب العثمانيين السني الحنفي ، وبعد وفاة الإمام القاسم عام 1029هـ/ 1620 م يخلفه ابنه محمد الملقب بالمؤيد وهو الذي تمكن بعد انتقاض الصلح بين الطرفين من مقارعة الأتراك ليتم طردهم نهائياً من اليمن عام 1045هـ/ 1635 م ولتكون بذلك اليمن أول ولاية عربية تخرج عن فلك الدولة العثمانية ، والتي ستعود إلى اليمن ثانية عام 1266 هـ / 1848 م أي بعد أكثر من قرنين من الزمان .
وبخروج الأتراك تمهد الطريق لتوحيد اليمن للمرة الثالثة في الزمن الإسلامي ، وكان الموحد هذه المرة المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم أخو المؤيد السالف الذكر، إذ قام بتجهيز الحملات على المناطق الشرقية من اليمن والتي خرجت قبل ذلك مستغلة حالة الضعف والاقتتال بين الأئمة، كما وصلت قوات الإمام إلى يافع لإخضاعها ثانية، وعندما علم الكثيري سلطان حضرموت بما حل بأهل يافع راسل الإمام معلنا الدخول في طاعته، كما دخلت في طاعته جهات ظفار الحبوضي الواقعة اليوم في بلاد عمان. وبهذا الامتداد باستثناء مكة يكون اليمن قد توحد من أقاصي الجنوب والشرق إلى أقاصي الشمال، كما كان الحال أيام الرسوليين والصليحيين ، ونلفت الانتباه إلى أن سبب غياب ذكر بلاد المهرة في الشرق وبلاد عسير بمدنها في الشمال راجع إلى أن بلاد المهرة كانت جزءاً من حضرموت، مثلما كنت بلاد عسير ومدنها تابعة لصعدة كمركز ديني وإداري .
وقد شهد حكم المتوكل على الله إسماعيل الممتد لثلاثين عاماً في معظمه قدراً من الاستقرار السياسي مكن من ازدهار الزراعة والتجارة والفكر والثقافة ليستحق بعدئذٍ وصف المؤرخين له بأنه أفضل عصور اليمن الحديثة على الإطلاق .
وخلف المتوكل إسماعيل في سُدَة الإمامة اثنين من أسرة آل القاسم هما: أحمد بن الحسن الملقب بـ(سيل الليل)، ومحمد بن المتوكل والذي امتد حكمهما لعشر سنوات، ثم اعتلى الحكم طامح جديد من أبناء الجيل الثالث هو محمد بن أحمد بن الحسن المعروف بـ(صاحب المواهب)، نسبة إلى قرية قرب ذمار كان قد اتخذها مقراً لحكمه. وفي زمن صاحب المواهب هذا شهدت اليمن حالات متتابعة من الحروب والانقسامات داخل بيت القاسم لأكثر من ثلاثين عاماً سببها الطموح إلى السلطة والنفوذ وخيراتهما، وقد شكل مبدأ الخروج على الظلم كما يرى المذهب الزيدي غطاءً شرعياً لتحقيق تلك الطموحات في النفوذ والسلطة، وقد أراقت تلك الحروب كما أسلفنا كثيراً من الدماء وأهلكت كثيراً من الزرع والضرع ، وبعد صاحب المواهب عرفت اليمن سلسلة من الأئمة من بيت القاسم وشهد هؤلاء طموحات أئمة آخرين تفاوتوا في القوة والضعف وإحراز المكاسب، بالإضافة إلى تمردات القبائل ، ثم اعتلي عرش السلطة المهدي عباس بن المنصور 1161–1189م الموافق 1748– 1775م وهو الإمام العاشر، وقد تميز المهدي بكفاءات وقدرات أهلته لإعادة مركزية الدولة وحكم معظم مناطق اليمن من صنعاء العاصمة كل الربع الثالث من القرن الثالث عشر الهجري -الثامن عشرالميلادي، ولا يعني هذا أن أحداً لم يخرج عليه، ففي تاريخ الأئمة كان هناك على الدوام من لا يعترف بحكم الإمام المبايع فيدعو لنفسه، بل هناك أئمة يدعون لأنفسهم ، وإلى جانب طموحات الأئمة ، شهد حكمه غارات القبائل على أنحاء من تهامة واليمن الأسفل بقصد السلب والنهب، فعاثت فساداً في الديار الآمنة. لكن الإمام المهدي تمكن بالسياسة حيناً وبالقوة أخرى وبمعاونة أهل العلم وأبرزهم في زمانه وأكثرهم نشاطاً علمياً وسياسياً في سبيل العلم والناس العلامة ابن الأمير المتوفى 1182هـ/1768م والإمام المهدي هذا هو الذي زاره الرحالة الألماني كارستن نيبور عام 1177 هـ/ 1763 م ووصف هيئته ومجلسه الفخم وحاشيته. والمهدي أيضا هو الإمام الذي وصفه الشوكاني رغم إعجابه به، بالفردية والاستبداد، كما اشتهر بنهمه للأرض حتى سطا على أملاك الأوقاف وصير غيولاً تاريخية كالغيل الأسود وغيل البرمكي ملكاً خالصاً له .
وتكاد الفترة الباقية من تاريخ اليمن ، أي من وفاة المهدي حتى قدوم الأتراك للمرة الثانية لا تختلف عن سابقتها لا في طبيعة الحكم فيها ولا في طبيعة الأحداث ، فبينما استمر الانقسام والاقتتال بين الطامحين في السلطة من الأئمة، استمرت القبائل كذلك في نصرة من تأنس فيه السيادة لتفوز معه بخيرات السلطة والحكم ، وفي حالات كثيرة كانت القبائل تستقل بتمرداتها لنفسها متى ما آنست ضعفاً في السلطة المركزية إلى حد محاصرتها للعاصمة صنعاء ، كما أفسح المجال لطامحين آخرين باسم الصوفية أو إقامة الشرع للحصول على مناطق نفوذ تتسع وتنكمش حسب علاقات القوة المتغيرة باستمرار .
وبسبب الضعف الذي آلت إليه الأمور فقد الأئمة كثيراً من المناطق في المخلاف السليماني بعاصمته أبى عريش وبعض تهامة اليمن لصالح الدولة الوهابية السعودية الأولى ، ثم فقدت بعدئذٍ لصالح محمد على باشا في مصر، وهو الذي جاء بقواته إلى الجزيرة للقضاء على دولة الوهابيين السعودية وليوحدها تحت حكمه فوصلت قواته إلى تهامة في اليمن 1220 –1265 هـ/ 1805- 1848 م ، وقد دفع توسع محمد علي وطموحه في التوحيد بريطانيا إلى احتلال عدن لصد طموحات محمد علي ولتأمين الطرق البحرية إلى الهند درة التاج البريطاني كما كانت تسمى ، وقد سلم محمد علي ـ بعد تكالب الأوربيين عليه وهزيمته ـ جميع ذلك بعد انسحابه 1256 هـ/ 1840 م لحلفائه أشراف المخلاف السليماني بزعامة الشريف حسين بن علي حيدر وحلفائهم في عسير من آل عائض ، وقد عاصرت هذه الأوضاع طموح آخر الأئمة الذي سيفقد اليمن في عهده استقلاله لصالح بريطانيا والأتراك العثمانيين وهو محمد بن يحيى الملقب بالمتوكل، فقد أقام علاقات طيبة أول الأمر مع القوات المصرية في تهامة ، وبعد رحيلها ذهب إلى مصر باحثاً عن عون عسكري يدخل به صنعاء، ولما كانت الأمور قد تغيرت في غير صالح محمد علي عاد الطامح محمد بن يحيى خالي الوفاض ، لكنه يمم وجهه شطر أشراف المخلاف السليماني الذين كانوا قد استقروا بجهاتهم ضد رغبة السلطة في صنعاء، بل وحدوا من سلطتها بتوسيع أملاكهم في كل تهامة اليمن حتى أن الميناء الحيوي (المخا) كان واقعاً تحت سيطرتهم ، وفي وقت لاحق حاولوا الوثوب على عدن لطرد الإنجليز منها، وقد قام الشريف حسين بن علي حيدرة بدعم طموحات محمد بن يحيى المتوكل كي يخلق لنفسه شرعية في السيطرة على المناطق التي تحت يده وليتمكن من التوسع في إقليم اليمن في كل الجهات لو قدر على ذلك مثله مثل أي قوة يمنية أخرى مرت بنا قبلاً، أمد الشريف حسين الطامح محمد بن يحيى المتوكل بالأموال والعتاد مما مكن المتوكل فعلا من هزيمة الإمام المهدي ودخول صنعاء إماماً جديداً ، لكن هذا الحلف مع أشراف المخلاف السليماني لم يلبث أن انهار لتصادم مصالح الطرفين خاصة وخزانة الإمام المتوكل خاوية بفعل سيطرة الشريف حسين على الموانئ المدرة للمال، فقامت لذلك حرب بين الطرفين اشتركت فيه القبائل اليمنية في عسير ويام وهمدان وباجل وغيرها مدفوعة في الغالب برغبات في الحصول على الأموال، وبعضها ليحمي استقلاله ومنطقته من أطماع هذا فيحتمي بذاك كما فعلت قبائل باجل مثلا، وقد كانت وعود الحصول على الأموال وتوزيع الموجود منها على القبائل في الطرفين عاملاً حاسماً في مواقف القبائل من الفريقين. وقد دارت الدائرة أول الأمر على الشريف حسين وأسر، لكن فُك أسره بعد ذلك فيما كان الإمام المتوكل يحاول الخروج من تطورات الوضع العسكري في تهامة والذي أدى إلى حصره هناك، لكنه تمكن بالحيلة والوعود الكاذبة من الوصول إلى صنعاء تاركا تهامة ثانية في يد الشريف حسين . ثم واجهته صعوبات القضاء على طامحين جدد في صعدة وذمار ادعيا الإمامة مسنودين من قبائل غاضبة على الإمام المتوكل، وهكذا يبدأ فصل جديد من فصول التنافس الدموي بين الأئمة على السيادة والنفوذ والأحقية، كل هذا يحدث والأتراك العثمانيون في الحجاز على مقربة منه يسمعون ويتابعون، وقد دفعت المصالح المتضاربة والمواجهات الأولى بين الإمام المتوكل والشريف حسين من جهة وبين الأخير وجاره أمير عسير محمد بن عائض المتحالف مع المتوكل، دفعت الشريف حسين إلى دعوة السلطات العثمانية لتدخل تهامة، فصدرت الأوامر لوالي الحجاز بقيادة جيش لدخول تهامة، فدخل الجيش الحديدة عام 1265 هـ/1849 م بالتعاون مع الشريف حسين، وقد رأى الإمام المتوكل أن من الحكمة أن لا يترك خصمه يستأثر وحده بعلاقات ودية مع الأتراك، فقرر هو الآخر أن يظهر حسن نواياه تجاههم، وقد ذهب في ذلك إلى حد أنه دعاهم لدخول صنعاء ثانية، وقنع بمرتب شهري يؤدونه له وأعلن في الناس أن أمرهم قد صار إلى الأتراك العثمانيين، وأمام هذا الوضع الجديد والغريب في آن يرسم اليمنيون نقطة مضيئة في تاريخهم ، فقد وقفت القبائل اليمنية موقفا وطنياً وأظهرت غيرتها على الأرض والعرض ، خاصة وأن الأجيال كانت ما تزال تروي فضائع العثمانيين في حملتهم الأولى وبطولات الأسلاف في مقارعتهم الطعان وطردهم من اليمن التي انتزعت بجدارة لقبها المعروف " مقبرة الأناضول ".
تصدى سكان صنعاء وكافة القبائل المجاورة والقادمة للأتراك فضيقوا عليهم الخناق وقتلوهم في الأسواق حتى أنهم لم يتمكنوا من الخروج لشراء حاجياتهم وظلوا محصورين في ثكنتهم ينتظرون الفرج، ومن جانب آخر كان الناس يطاردون الإمام المتوكل لقتله وينعتوه بالخيانة وقد خلعوه وبرئوا منه وعينوا مكانه الإمام المهدي ، وهو نفس الإمام الذي انهزم أمام المتوكل قبل ما يزيد قليلا عن الأربع سنوات، ويقوم الإمام الجديد بالقبض على المتوكل وقطع رأسه ثم فاوض الأتراك في كيفية الخروج من صنعاء إلى الحديدة بأمان ليستقروا هناك، فخرجوا خاسئين منكسي الرؤوس يوم عيد الفطر ، الأول من شهر شوال 1256هـ/18 أغسطس 1849م، فكان هذا الخروج الذليل للأتراك للناس عيدا فوق عيد، ومع ذلك فلا بد من القول أنهم خرجوا فقط من صنعاء ولم يخرجوا من اليمن كله .
ولم يعمر الإمام المهدي في السلطة طويلا فقد خلع بعد عدة أشهر ليأتي إمام جديد ولتدخل صنعاء وما حولها في فترة فوضى واضطراب يتنازع السلطة فيها أئمة صغار ولتعم فوضى القبائل وهو ما مهد الطريق لعودة الأتراك العثمانيين ثانية إلى صنعاء .
وهكذا تفقد اليمن رسمياً استقلالها بوجود قوتين أجنبيتين هما بريطانيا في عدن والعثمانيين في صنعاء وبحكم العداء بين هاتين القوتين فقد رسمت العلاقات بينهما خريطة اليمن السياسية ، ووقع الجانبان معاهدة في العام 1914 م رسمت فيها حدود نفوذ بين القوتين الأجنبيتين، وهكذا ينشطر اليمن لأول مرة في التاريخ ، وتنشأ تسمية الجنوب العربي التي ابتدعها الإنجليز لإعطاء الجزء الذي يسيطرون عليه شخصية اعتبارية مستقلة وتابعة لهم، وأخذ الإنجليز يشجعون في الجهات الجنوبية والغربية من اليمن الاتجاهات القبلية والعشائرية وينشئون السلطنات ويسمحون لها بقدر من الاستقلال الذاتي تحت مظلتهم ،أما الأتراك فلم يستفيدوا لا من تجربتهم السابقة ولا من تجارب الإنجليز في كيفية التعامل مع الجزء الشمالي الذي يخضع لسيطرتهم فطفقوا ثانية يحاولون إرساء حكم مركزي تتريكي، خاصة بعد وصول القوميين الأتراك جمعية الاتحاد والترقي إلى السلطة في استنبول عام 1908م، سبب لهم المتاعب وأثار في وجوههم الثورات في مختلف مناطق البلاد تارة بقيادة القبائل وأخرى بقيادة جيل جديد طامح من الأئمة الزيديين الذين برز منهم في الفترة بين الاحتلال العثماني الثاني ونهاية الحرب العالمية الأولى الإمام المتوكل محسن والإمام الهادي شرف الدين والإمام المنصور محمد بن حميد الدين وابنه المتوكل يحيى ، الذي تزعم اليمنيين لمقارعة الأتراك ، بل وتمكن من حصار صنعاء وأجبر الأتراك أخيراً في الصلح المشهور بصلح دعّان عام 1329 هـ/ 1911 م ، ضمن بنود كثيرة على الاعتراف به حاكماً وحيداً للطائفة الزيدية في اليمن مقابل اعتراف الإمام بالسيادة العثمانية على اليمن، وهو ما جعل حرب الإمام للأتراك تبدو وكأنها فقط لنيل الاعتراف بسلطته الدينية والسياسية على المناطق التي ينتشر فيها المذهب الزيدي ، وقد نفرت إثر ذلك قبائل يمنية عن الإمام متهمة إياه بأنه صار حليفا للأتراك واتجهت إلى منافسه محمد الإدريسي في صبيا بعسير، حيث كان محمد الإدريسي قد استثمر مكانة أسرته الدينية ليؤسس دولة الأدارسة في أعالي الشمال الغربي لليمن ، وليبدأ بلعب دور في أحداث التاريخ اليمني، ملفتاً بطموحه السياسي الوثاب نظر كل من الإمام يحيى والأتراك .